لمن لا يعرف قيمة المرأة: تأمل في الجوهرة التي صنعت الحياة

في مجتمعات تباينت رؤاها الثقافية والدينية والاجتماعية، بقيت المرأة محورًا أساسيًا لا يُستغنى عنه في تكوين الأسرة، وبناء المجتمع، وصناعة الحضارة. ومع ذلك، لا يزال البعض يتعامل معها ككائن هامشي أو ثانوي، غير مدركٍ لحجم الأثر الذي تتركه في جميع مستويات الحياة، من أبسط تفاصيل البيت، إلى أعلى مراتب التأثير الثقافي والسياسي والاقتصادي. من لا يعرف قيمة المرأة، إنما يجهل التاريخ، ويتغافل عن منطق الفطرة، ويتجاوز تعاليم الإنسانية التي كرّمت المرأة بوصفها الأم، والبنت، والزوجة، والعالمة، والمربية، والمشاركة في بناء النهضة.

المرأة في السياق التاريخي: بين الظلم والتمكين

منذ العصور القديمة، كان وضع المرأة يتأرجح بين التقديس والإقصاء. ففي بعض الحضارات، كالحضارة الفرعونية، احتلت المرأة مكانة مرموقة وصلت إلى حكم الدولة كما في حالة الملكة حتشبسوت. أما في اليونان القديمة، فقد حُرمت المرأة من حقوقها الأساسية، حيث كانت تعتبر ناقصة العقل، لا يُعتد برأيها في المحاكم، ولا يحق لها التصويت أو التملّك الكامل. وفي الجاهلية العربية، كانت توأد البنات خشية العار، فكانت قيمتها معدومة في بعض الأوساط.

لكن مع بزوغ فجر الإسلام، جاءت التشريعات القرآنية والنبويّة لتقلب الموازين، فأعلن الوحي الكريم مساواة المرأة بالرجل في الكرامة الإنسانية: “ولقد كرمنا بني آدم” (الإسراء: 70)، وشرّع لها حقوق الإرث والتعليم والزواج والطلاق والمشاركة المجتمعية والسياسية. وهذا التحول التاريخي لم يكن مجرد تحسين شكلي، بل ثورة فكرية ومجتمعية عميقة في وقتٍ كانت أغلب الأمم الأخرى لا تزال تعتبر المرأة سلعة أو عالة.

المرأة في بناء الأسرة والمجتمع

المرأة هي النواة التي يُبنى عليها كيان الأسرة، فهي التي تلد وتُرضع وتربي. لا يمكن لأي حضارة أن تستقيم دون أم صالحة، واعية، مدركة لقيمة التنشئة الاجتماعية، وقادرة على غرس القيم والمبادئ في أبنائها. الأم ليست فقط حاضنة لجسد الطفل، بل حاضنة لفكره وروحه وشخصيته.

ومن الغريب أن يُغفل البعض هذا الدور الجوهري، رغم أن الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة أثبتت أن أول خمس سنوات في حياة الطفل — التي تكون فيها الأم هي المرجع الأول والأهم — تشكل 90% من بنيته النفسية والعقلية المستقبلية.

في المجتمعات المتقدمة، لا يُنظر إلى الأمومة كمجرد وظيفة منزلية، بل يُنظر إليها باعتبارها أهم مساهمة في التنمية البشرية المستدامة. وهذا ما يفسر سياسات الدعم الأسري، والإجازات الطويلة للأمهات، والمخصصات المالية لتربية الأطفال.

المرأة والتعليم: تحرّر العقل والمجتمع

لا يمكن الحديث عن نهضة حقيقية لأي أمة دون أن تكون المرأة متعلّمة، واعية، قادرة على التفكير النقدي والمساهمة في مختلف فروع المعرفة. من لا يعرف قيمة المرأة، يجهل أن أول كلمة في الإسلام كانت “اقرأ”، وأن التعليم لم يكن حكرًا على الرجل، بل شمل النساء، وأوصى به النبي محمد ﷺ حين قال: “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”.

نساء كثيرات كنَّ رائدات في العلم والفكر، أمثال فاطمة الفهرية التي أسست أول جامعة في العالم (جامعة القرويين)، ورفيدة الأسلمية أول ممرضة في الإسلام، وعائشة رضي الله عنها التي كانت مرجعًا فقهيًا وصاحبة علم غزير.

وقد أثبتت التجارب أن تمكين المرأة تعليميًا ينعكس مباشرةً على مؤشرات التنمية في المجتمع، من خفض نسب الأمية، وتقليل معدلات الوفاة، إلى رفع مستويات المعيشة وتعزيز الإنتاج المحلي.

المرأة والاقتصاد: من التهميش إلى الشراكة الفاعلة

لسنوات طويلة، عانت المرأة من التهميش في المجال الاقتصادي، لكنها مع الزمن استطاعت فرض وجودها تدريجياً. اليوم، تشكل النساء نسبة كبيرة من القوى العاملة في قطاعات متعددة مثل التعليم، الصحة، الهندسة، التقنية، والإدارة، بل وبرزت أسماء لنساء قياديات في المؤسسات الدولية والشركات الكبرى، وأصبح البعض منهن في مقدمة قائمة “فوربس” لأقوى النساء تأثيرًا.

بحسب تقرير البنك الدولي لعام 2023، فإن تمكين المرأة اقتصاديًا يمكن أن يضيف 20 تريليون دولار إلى الناتج العالمي بحلول 2030. هذه الأرقام ليست نبوءات، بل نتيجة منطقية لحقيقة بسيطة: المرأة ليست فقط مستهلكة، بل منتجة، ومبدعة، وقيادية عند توفر الفرص المناسبة.

ولا يقتصر الدور الاقتصادي على العمل الوظيفي، بل يمتد إلى ريادة الأعمال، إذ تُثبت الإحصاءات أن المشاريع الصغيرة التي تقودها النساء في العالم العربي تُظهر معدلات نجاح واستدامة تفوق تلك التي يديرها الرجال في بعض الأحيان، خصوصًا في القطاعات المتعلقة بالصحة، التغذية، الحرف، والتعليم.

المرأة والسياسة: حضور رغم القيود

رغم القيود التي فُرضت عبر العصور، فإن المرأة أثبتت قدرتها على خوض معترك السياسة والإدارة بكفاءة وحنكة. فمن لا يعرف قيمة المرأة، يتجاهل أسماء لامعة مثل أنديرا غاندي، ومارغريت تاتشر، وبناظير بوتو، وأنغيلا ميركل، وغيرهن من القيادات النسائية اللواتي تركن بصمة في السياسة الدولية.

في العالم العربي، بدأت المرأة تفرض حضورها بقوة، سواء في البرلمانات أو في الوزارات، أو على رأس مؤسسات كبرى، ولا تزال المطالب تتزايد لإزالة كل أشكال التمييز والتمكين الكامل للمرأة في الحياة العامة. فالقضية ليست مجرد مساواة شكلية، بل هي الاعتراف بكفاءة فعلية تستحق الفرصة مثل الرجل تمامًا.

المرأة والفن والثقافة: صوت الجمال والعقل

للمرأة إسهام رفيع في تشكيل الوعي الجمالي والوجداني للبشرية، عبر الأدب، والفن، والموسيقى، والشعر، والمسرح، والسينما. كانت المرأة في طليعة من عبّر عن قضايا المجتمع، ليس من زاوية ذاتية فحسب، بل من زوايا إنسانية شاملة. في الشعر العربي الكلاسيكي، نجد الخنساء نموذجًا للبلاغة والعاطفة، وفي الأدب العالمي تبرز أسماء مثل فيرجينيا وولف وسيمون دي بوفوار، وفي السينما الحديثة لمعت أسماء نسائية حازت جوائز كبرى على مستوى الإخراج والتمثيل والكتابة.

الإبداع ليس حكرًا على جنس أو فئة، بل هو نتاج عقل واعٍ وروح متفاعلة. والمرأة كانت، ولا تزال، رافدًا أساسيًا لإغناء الثقافة الإنسانية.

صورة المرأة في الإعلام: بين التشييء والتمكين

من أكبر التحديات التي تواجه المرأة اليوم هو التناول الإعلامي لصورتها، حيث تتأرجح بين التشييء التجاري، والتمثيل النمطي، وبين النماذج الإيجابية التي تُبرز نجاحاتها وقيمتها الحقيقية. الإعلام مسؤول بشكل كبير عن تشكيل وعي المجتمعات، وإذا استمر في تقديم المرأة كجسد أو كعنصر ترفيهي فقط، فإنه يعزز ثقافة التهميش.

لكن في المقابل، ظهرت مبادرات إعلامية جدّية تسعى لتقديم صورة واقعية للمرأة، تسلط الضوء على إنجازاتها وتُبرزها كشريكة فاعلة في التنمية.

جدول: مقارنة دور المرأة قبل وبعد التمكين الاجتماعي

في المجتمعات التي لا تعرف قيمة المرأة: الخسارة مضاعفة

حين يُقصى نصف المجتمع، فإن التنمية تتعطل، والعدالة تترنح، والنهضة تتعثر. المجتمعات التي لا تعرف قيمة المرأة تعاني من ضعف في بنية الأسرة، وارتفاع في معدلات الجريمة، وتسرب مدرسي، وانهيار في المنظومة الأخلاقية، لأن من يربي الأجيال لا يُمنح فرصته الحقيقية للمساهمة والتأثير.

المرأة ليست منافسة للرجل، بل مكملة له

القضية ليست في صراع الأدوار بين الرجل والمرأة، بل في تكاملها. كلٌ له خصائصه الفسيولوجية والنفسية والاجتماعية التي تتيح له الإسهام في بناء الحياة من زاويته. المجتمعات المتقدمة لم تنهض عبر تفضيل جنس على آخر، بل عبر إعطاء الفرصة لكلا الطرفين، وفق الكفاءة، والعطاء، والعدالة.

خاتمة بدون تفاعل أو أسئلة

من لا يعرف قيمة المرأة، يجهل ماضيه، ويعجز عن بناء مستقبله. المرأة ليست مجرد رقم أو دور اجتماعي، بل هي الكيان الذي يحمل الحياة، ويصنع الأمل، ويُرمم الكسر الإنساني في لحظات الشدة. إنها الروح التي لا يكتمل الوجود بدونها.

المراجع:

1. قاسم أمين، تحرير المرأة، القاهرة: دار الهلال.

2. تقرير البنك الدولي، 2023: “Women, Business and the Law”.